-
عضو جديد
بحث مبدأ الشورى
مبدأ الشورى
مقدمة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ، وبعد فالشورى : القرار الملزم الصادر من الجماعة .
والشورى تعلق بكل ما يخص نظم الجماعة سواء المتعلقة بشئونها الاجتماعية أم السياسية أم التنظيمية أم المالية ، وليست الشورى خاصة بالشئون السياسية وحدها .
ومن جهة أخرى فإن حق الفرد فى الشورى نابع من حريته وحقوقه الإنسانية التى يستمدها من فطرته الآدمية ، ومن شريعة الله تعالى .
والمشورة والاستشارة : هى تبادل الرأى فى غير إلزام . ويدخل فى المشورة والاستشارة : النصيحة ، والفتوى ، والاستشارة العلمية والقانونية .
وقد تستعمل الشورى بهذا المعنى الأخير أيضا ، فيكون لها معنيان أحدهما خاص عرفى يستعمل أساسا فى المجال السياسى . والآخر واسع وعام يستعمل فى كافة المجالات .
الشورى - على الرأى الراجح كما سيأتى - ملزمة ، أما المشورة والاستشارة
فهى اختيارية .
وتمتاز الشورى فى الإسلام بالشمول حيث لا يقتصر ذلك على حق الأفراد فى المشاركة فى القرار الملزم الصادر عن الجماعة ، بل تتجاوز ذلك إلى المشورة الاختيارية واستشارة أهل الخبرة وتبادل النصيحة ، حيث يندب الإسلام الجميع إلى الاستشارة والتناصح قبل الإقدام على الأمر سواء تعلق بالفرد أو الجماعة ، فالشورى شعيرة إسلامية مندوب لها الجميع لتدريب الأفراد والجماعات على تبادل الرأى بحرية كاملة واحترام متبادل .
لقد درج كثيرون على اعتبار الشورى مبدأ يقوم عليه نظام الحكم ، ويقيد سلطة الحكام ، بينما يجب اعتبارها نظرية عامة شامة للمبادئ التى تقوم عليها حرية الأفراد ، وحقوق الشعوب ، وتضامن المجتمع فى جميع النواحى السياسية والاجتماعية والمالية والاقتصادية وغيرها .
الموضوع
فالشورى فى الإسلام مبدأ إنسانى أولا ، واجتماعى وأخلاقى ثانيا ، ثم هى قاعدة دستورية لنظام الحكم ، ولذلك فإن نطاق تطبيقها واسع شامل .
كما أن النظرية العامة للشورى تشمل تطبيقها فى مجال الفقه ، ولا يخفى ما للإجماع والاجتهاد من دور فى استنباط الأحكام الشرعية ، ولا تقل أهمية الشورى فى هذا المجال عن أهميتها فى المجال السياسى .
ويمكننا أن نصف شريعتنا بأنها شريعة الشورى بالقدر نفسه الذى نصفها بأنها شريعة
السماء ، فالشريعة الإسلامية كما أنها شريعة إلهية من حيث مصادرها السماوية ، فإنها تعتمد أيضا على مصادر اجتهادية كالإجماع والاجتهاد اللذين يعتمدان على الشورى .
والمنبع الإلهى للشريعة يفرض سيادة الشريعة على المجتمع والدولة ، وما دامت الشريعة هى التى فرضت الشورى ، فإن الشورى تكون أسمى من الدولة ، وبذلك تحررنا من فلسفات الفقه الأوربى الذى يجعل الدولة صاحبة سلطة التشريع الوضعى الذى يمكن للحكام اتخاذه وسيلة لتحكم فى حريات الأفراد وحقوقهم بحجة أن القانون الوضعى هو إرادة الدولة التى يمثلونها .
إن استقلال الشريعة كان معناه دائما استقلال الشورى الفقهية والعلمية ، فلما تتدخل النظم السياسية طوال تاريخنا فى الشورى الفقهية ، ولا تستطيع ذلك لاستقلال الشريعة ، وهذا يدل على أن اتهام دول الخلافة الناقصة بأنها عطلت الشورى فيه بعض الغلو ، لأنه يجب إنصافهم بالاعتراف لهم باحترام مبدأ الشورى فى الفقه ، ولم يتدخلوا فى التشريع كما تفعل الدول العصرية اليوم ، ولم يدع أحد منهم سلطة التشريع التى تدعيه اليوم النظم الحاكمة فى أصغر الدول .
ويجب أن نعترف بأن الذى مكن المة من إلزامهم بذلك هو تمسكها بالطابع السماوى الإلهى للشريعة ، الذى يحرم الحكام من سلطة التشريع ، ولا ننسى أن الفقه الإسلامى يقصر عمل الحكومة فى نطاق السلطة التنفيذية .
ولهذا فى الفقه الدستورى الإسلامى يقوم على مبدأ سيادة الشريعة واستقلالها وهيمنتها على المجتمع والدولة ، ومن ثم فكل عرض لأصول الحكم فى الإسلام لا يكون صحيحا إلا فى ضوء استقلال الشريعة وحمايتها لحقوق الإنسان ، وحرية الشورى فى افقه التى هى حصن حقوق الإنسان وحرية العوب وسلطانها ، فاستقلال الشريعة وحرية الشورى الفقهية هما محور النظام الإسلامى وليست أحكام الإمامة أو الخلافة التى نجدها فى كتب الفروع الفقهية .
ولقد رسمت الشرعية الإسلامية حدودا للشورى ليس لها أن تتجاوزها ، وهى حدود ثابتة خالدة طالما بقى الإسلام وبقيت شريعته ، بخلاف الديمقراطية فإنها لا تعرف الحدود الثابتة .
بخلاف الشورى حيث هناك ثوابت لا يمكن تجاوزها بدءا من وجوب سيادة الشرعية ، واستقرار ما يعرف بالمعلوم بالدين بالضرورة مما لا يجوز تغيره ، ولا التنكر له ، والفواصل القاطعة بين الثابت الذى لا يمكن تغييره ، والمتغير القابل للاجتهاد والتغيير ، ففى الإسلام ليس كل شىء مطروحا للنقاش .
فارتباط الشورى بالشريعة يجعلها خاضعة لمبادئها الأخلاقية الثابتة ، وملتزمة بسيادة
الشريعة ، وأصولها وشمولها .
ومن هنا فإن الشورى شرعية ، أى : قررها الشرع ، وهى ملتزمة به .
ومن هنا أيضا فإن الشورى ليست تشريعا مستقلا ، بل منضبط بالشريعة الإسلامية .
والشورى بذلك هى الحصن الذى يجب أن تحتمى به أصول نظم الحكم الإسلامية ، وخاصة فى عصرنا الحاضر بعد أن خرجنا من ظل العظمة الواقعية التى كانت أظلتنا بها ضخامة دولة الخلافة الموحدة ، حينما كانت صورتخا العملاقة تخفى عن الناس نقصها الناتج عن انحراف الحكام عن تطبيق مبدأ الشورى فى اختيار الحكام ، كما أن هذه الانحرافات ما زالت تخفى عن بعض الباحثين أن حضارتنا التزمت فعلا بحرية الشورى فى الفقه والعديد من المجالات فى جميع عصور الخلافة الناقصة التى سادت العالم الإسلامى بعد عهد الراشدين .
وإذا كانت عظمة دول الخلافة الناقصة قد صرفت جماهيرنا عن مقاومة الانحرافات التى شابت نظم السلاطين ، الذين استولوا على الحكم بغير الشورى ، فإن بُعْد دول الخلافة الناقصة عن الشورى قد صرف بعض الباحثين المعاصرين عن أهم مزايا تلك النظم الناقصة ، وهو عدم ادعائها سلطة التشريع ، وحصر سلطتها فى تنفيذ الشريعة ، وعدم تعطيلها للشورى الحرة فى الاجتهاد والإجماع ، وهذا أهم ما يميز تلك النظم عن النظم الوطنية المعاصرة التى تأثرت بالمبادئ
الغربية ، وجعلت التشريع سلطة من سلطات الدولة ، دون تقيد بأصول الشريعة ومصادرها .
إن ما حققته الحضارة الإسلامية من قوة وعظمة فى عهود الخلفاء والسلاطين الذين يوصفون اليوم بالاستبداد سببه التزامهم بمبدأ سيادة الشريعة ، ونجاح الأمة وعلمائها فى فرض حرية الفقه عليهم ، مما جعل استبداد الحكام فى الماضى لا يصل إلى ما وصل إليه طغيان حكام اليوم ، الذين يستخدمون سلطة التشريع الوضعى وسيلة ضد حقوق الأفراد وحرياتهم ، وبقوة القانون .
بينما يشهد الواقع المعاصر أن أكثر الدول تباهيا بديمقراطيتها هى أكثر الدول عدوانا وفسادا فى الأرض ، ويتم ذلك بقرارات ديمقراطية جدا ، وبعد تشاور حر يرضى أهواءهم ومصالحهم دون التزام بمبدأ إلهى أو أخلاقى أو إنسانى .
إن الإسلام عندما فرض الشورى بعد ختم رسالة الأنبياء جميعا قد اعتبر أن الإنسانية قد بلغت رشدها ، ووصلت بها إلى الرقى الاجتماعى الذى يمكن الشعوب من تقرير مصيرها وإدارة شوؤنها .
إن تقرير مبدأ الشورى فى القرآن الكريم كان إيذانا بعهد جديد لفنسانية الرشيدة ، تقيمه الشورى على أساس حق الشعوب فى تقرير مصيرها ، ولذلك فالإسلام يوجب الشورى فى جميع جوانب حياة المجتمع.
والشورى فى الإسلام ليست نظرية سياسية وحسب ، أو قاعدة لدستور الحكم ، بل إنها الأساس الشرعى لنظام المجتمع ، الذى يلتزم بحقوق الإنسان ، وسلطان الأمة ، والتضمان الاجتماعى .
لذلك فإن دراسة الشورى ليست محدودة فى نطاق نظام الحكم الإسلامى ، ولا المبادئ السياسية العامة التى تقيد سلطة الحكام ، كما هو الشأن فى النظريات الديمقراطية التى تحصرها الدراسات العصرية فى نطاق العلوم السياسية أو القوانين الدستورية أو نظام الدولة .
بل الشورى أعمق من ذلك وأوسع نطاقا ، فكما تستمد منها الأمة وحدتها وسلطانها يستمد منها المجتمع تضامنه وتكافله .
كما أن مبدأ الشورى فى شريعتنا يلتزم بأهم أصول الشريعة ، وهو : استقلال الشريعة عن الحكم والحكام ، وتطبيق هذا الأصل يستوجب أن تكون الشورى فى نطاق الفقه هى تبادل للرأى مستقل ومنفصل عن الشورى فى مجال السياسة ، مما يعنى أن تقلبات السياسة التى قد تعطل الشورى فى مجالها ، لا تنعكس بالضرورة على الشورى فى نطاق الفقه ؛ وهذا ما حمى فقه الشريعة طوال التاريخ الإسلامى من آثار انحراف نظم الحكم عن الالتزام بالشورى السياسية ، فتاريخنا الإسلامى لم يشهد ما نراه اليوم فى النظم الوضعية التى يستطيع فيها من يستولى على السلطة أن يغير الدساتير والقوانين ، ولا يكتفى بتغيير نظام الحكم ، والتحكم فى
الإدارة والجيش .
وأساس الشورى : كيان الجماعة وحقوقها ومسئوليتها مستمد من تضامن مجموع الأفراد ، ومبدأ الشورى يعنى أن كل قرار ينسب للجماعة يجب أن يكون تعبيرا عن إرادة جمهور الجماعة ، أو مجموع أفرادها بشرط أن يتمتع الجميع بحرية كاملة فى المعارضة والمناقشة ، بل
والامتناع أيضا .
فأساس الشورى أن حرية الفرد فى الجماعة تعطيه حقه الفطرى فى المشاركة فى كل ما يخص الجماعة ، فالحرية حق أساسى لجميع الأفراد ، ولهم حق ممارسته على قدم المساواة ، والمساواة لا يمكن أن يتمتع بها الجميع إلا بالعدالة .
ولهذا فالشورى لا بد أن تستند إلى العدالة التى تقيم توازنا دقيقا بين حرية الأفراد والجماعات من ناحية ، وبين وجود سلطة عامة .
وبذلك تكون الشورى ميزانا تمثل الحرية إحدى كفتيه ، والسلطة والحكم الكفة المقابلة لها ، وتركتز كلتاهما على محور شرعى ثابت من أصول الشريعة مبادئها ، ولا يمكن للسلطة أن تفرض قيودا على الحريات....
والفهم العميق الشامل لمبدأ الشورى ليس مصدره مجرد اجتهاد فقهى ، أو نظرية مبتكرة ، بل تفرضه نصوص صريحة قاطعة فى القرآن الكريم .
ومن جهة أخرى فإن الشورى ليست هدفا لذاتها ، وإنما هى مشروعة فى الإسلام كوسيلة لتحقيق العدل ، وتنفيذ مقاصد الشريعة . وقد تميزت شريعتنا بأنها تربط الشورى بالعقيدة والشريعة {الذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم} .
والأخذ بمبدأ الشورى يعنى حرية الفكر والرأى والكتابة والنشر والإعلام ، وهذا يستلزم القضاء على احتكار الدولة ومؤسساتها للصحافة والإعلام بوسائله المتعددة .
إن النظرة الشاملة للشورى فى مجال الفقه والحكم فى شريعتنا تكشف لنا أن للشورى دورها الخطير فيما يتعلق بحريات الأفراد وحقوق الإنسان ؛ لأنها تجعل الفرد - وليس الحكومة - هو صاحب الدور الأول فى المجتمع الملتزم بالشورى ، سواء فى التشريع أو فى السياسة ، فالفرد هو الذى يقوم بالاجتهاد فى الفقه ، وهو الذى يفوض أهل الحل والعقد لكى يمثلوا الأمة ، فالفرد يمارس السلطات الإنسانية فى المجتمع ، وإذا كان لا بد من كيان أكبر من الفرد تنسب إليه السلطة والولاية فهو الأمة ، التى هى مكونة من مجموع الأفراد ، فالأمة هى صاحبة السلطان ، والشورى هى إرادة الأمة([1]).
الشورى فى اللغة
الشورى مصدر شاورته ، مثل البشرى والذكرى ونحوه .
والمَشْوَرة والمَشُورة : الشورى .
تقول شاورته فى الأمر واستشرته وهما بمعنى .
والاستشارة مأخوذة من قول العرب : شرت الدابة ، وشورتها إذا علمت خبرها بجرى أو غيره . ويقال للموضع الذى تركض فيه الدابة : مشوار .
وقد يكون من قولهم : شرت العسل واشترته فهو مشور ، ومشار ، إذا أخذته من موضعه .
وقد يكون من قولهم : شار الخيل شورا ، راضها ، أو ركبها عند العرض على مشتريها ، أو بلاها لنيظر ما عندها ، أو قلبها . فكأن المشورة على الرأى تقليب لوجوه النظر ، وترويض له .
وأشار عليه بكذا : أمره ، وهى الشورى .
واستشاره : طلب منه المشورة .
وقال حكيمهم :
برأى لبيب أو مشورة حازم
إذا بلغ الرأى المشورة فاستعن
فإن الخوافى قوة للقوادم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة
وقال بعض العقلاء : ما أخطأت قط ! ، إذا حزبنى أمر شاورت قومى ففعلت الذى يرون ، فإن أصبت فهم المصيبون ، وإن أخطأت فهم المخطئون([2]).
الشورى فى القرآن الكريم
أوجب الله سبحانه وتعالى الشورى على الأمة فى آيتين ، ورد فيهما النص صريحاً على وجوب اتباع هذا المبدأ .
فالنص الأول جاء فى صورة أمر للرسول e ، فمن باب أولى تكون أمته مأمورة به .
والثانى بَيَّن أن من صفات المؤمنين الأساسية أنهم يتصرفون فى الأمور ، ويقررون الآراء ، بالتفاهم والمشاركة وتبادل الرأى : أى بالشورى([3]) .
ومن ناحية أخرى فقد حفل القرآن الكريم بالشورى ، وجعلها عنصرا من العناصر التى تقوم عليها الدولة الإسلامية ، ففى الكتاب الكريم سورة عرفت باسم ((سورة الشورى)) ، وقد سميت بذلك ؛ لأنها السورة الوحيدة التى قررت الشورى عنصراً من عناصر الشخصية الإيمانية الحقة ، ونظمتها فى عقد حياته : طهارة القلب بالإيمان ، والتوكل ، وطهارة الجوارح من الإثم
والفواحش ، ومراقبة الله بإقامة الصلاة ، وحسن التضامن بالشورى ، والإنفاق فى سبيل الله ، ثم عنصر القوة بالانتصار على البغى والعدوان([4]) .
وجدير بالذكر أن الاتفاق على تسمية هذه السورة بسورة الشورى يحوى أهمية الشورى كأساس من أسس التعايش بين المؤمنين فى المجتمع المسلم على جميع المستويات([5]) .
وهاتان هما الآيتان :
الآية الأولى : قوله تعالى : {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم فى الأمر}([6]) .
هذه الآية كما هو معروف نزلت بعد غزوة أحد وبمناسبتها . ذلك أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان قد استشار أصحابه فيما يفعل ، فأشار الشباب ومن لم يحضر بدراً بالخروج لملاقاة جيش الأعداء ، وأشار بعض الصحابة بأن يتحصن المسلمون بالمدينة ، وأن يتولوا الدفاع من دورها وحاراتها . وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يميل إلى هذا الاتجاه ، ولكن الاتجاه الأول حظى بتأييد أغلبية المسلمين ، وبخاصة من لم يحضروا بدراً رجاء أن ينالوا ما ناله البدريون من شرف ، وخرج الرسول e بالمسلمين إلا أن الهزيمة كانت من نصيبهم . ومع هذا نزلت الآية الكريمة { فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم فى الأمر} ، أى : لا يحملنك ما كان من نتائج المشاورة على أن تتركها بل شاورهم فى الأمر .
وهذا يدل على أن الله سبحانه وتعالى يريد أن تكون سياسة المسلمين قائمة على مبدأ الشورى فلا يستبد بها فرد([7]) .
وقال ابن جرير فى تفسيره : ((وأولى الأقوال بالصواب أن يقال ان الله عز وجل أمر نبيه بمشاورة أصحابه فيما حزبه من أمر عدوه تألفاً منه بذلك من لم تكن بصيرته بالإسلام البصيرة التى يؤمن عليه من فتنة الشيطان ، وتعريفا منه أمته باقى الأمور التى تحزبهم من بعده ، ومطلبها ليقتدوا به عند النوازل التى تنزل بهم ، فيتشاوروا فيما بينهم كما كان فى حياته e يفعله ، فأما النبى
فإن الله كان يعرفه مطالب وجوه ما حزبه من الأمور بوحيه وإلهامه إياه صواب ذلك ، وأما أمته فإنهم إذا تشاوروا مستنين بفعله فى ذلك على تصادق ، وتآخ للحق ، وإرادة جميعهم للصواب من غير ميل إلى هوى ولا حيدة عن هدى ، فإن الله مسددهم وموفقهم([8]) .
وقد قال بهذه الرأى كذلك الحسن إذ يقول : قد علم الله أنه ما به إليهم حاجة ، ولكنه أراد قاعدة شرعية لما أمر الله بها .
وينقل القرطبى([9]) فى هذه الآية أربعة أقوال :
أحدها : أنه أمر بمشاورتهم فى الحروب ليستقر لهم الرأى الصحيح . قال الحسن : ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم .
والثانى : أنه أمر بمشورتهم تألفاً لهم ، وتطييباً لأنفسهم ، قاله قتادة .
والثالث : أنه أمر بمشورتهم لما علم فيها من الفضل ، قاله الضحاك .
والرابع : أنه أمر بمشورتهم ليستن به المسلمون ، ويتبعه المؤمنون وإن كان عن مشورتهم غنيا ، قاله سفيان . قال : وحمل ابن عباس هذه المشاورة على المناظرة عند القتال فأمره بمناظرتهم ليتبين لهم الصواب ، فعدل بها عن ظاهرها ، وجعل مشاورته لهم مشورة منه عليهم .
وقال صاحب الكشاف([10]) : {فى الأمر} : أى فى أمر الحرب ونحوه ، مما لم ينزل عليك فيه وحى ، لتستظهر برأيهم ، ولما فيه من تطييب نفوسهم ، والرفع من أقدارهم . وعن الحسن k : قد علم الله أنه ما به إليهم حاجة ، ولكنه أراد أن يستن به من بعده . وعن النبى صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم : ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمرهم . وعن أبى هريرة k : ((ما رأيت أحداً أكثر مشاورة من أصحاب الرسول e)) .
وقال الرازى([11]) فى تفسيره مثل هذا ، ومما جاء فى كلامه أن المشاورة مأخوذة من قولهم : شرت العسل أشوره : أخذته من موضعه ، واستخرجته . ثم بين وجوه الفائدة من أمر الله سبحانه رسوله بالشورى . ومن هذه الوجوه ما رواه عن الحسن وسفيان بن عيينة أنهما قالا : ((إنما أمر (أى الرسول e) بذلك ليقتدى به غيره فى المشاورة)) وأشار إلى معنى دقيق ، هو أن هذه الآية الكريمة نزلت عقب ما ابتلى به المسلمون يوم أحد ، ومع أن ما وقع فى ذلك اليوم قد أبان أن رأى من أشار على الرسول e بالخروج لم يكن صواباً ، فإن الله سبحانه وتعالى قد أنزل الأمر بالعفو عنهم ومشاورتهم أيضاً : أى أن الأمر هو أمر بالاستمرار فى مشاورتهم ، بالرغم مما ظهر من خطأ رأيهم ، وهذا يؤكد أهمية الشورى ، وبين مقدار عناية الدين بها . ومن الوجوه التى ذكرها المفسر أيضاً أن الرسول أمر بالشورى ، لا لأنه محتاج إلى آراء من يستشيرهم ، ولكن لأجل أنه إذا شاورهم فى الأمر اجتهد كل واحد منهم فى استخراج الوجه الأصلح ، فتصير الأرواح متطابقة متوافقة على تحصيل أصلح الوجوه فيها . ثم قال : ((وتطابق الأرواح الطاهرة على الشىء الواحد مما يعين على حصوله . وهذا هو السر عند الاجتماع فى الصلوات ، وهو السر فى أن صلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد)) .
ويرى بعض الباحثين أن النص فى الآية جاء فى صورة أمر للرسول e فمن باب أولى أن تكون أمته مأمورة به([12]) .
الخاتمة
و في ضوء ما درسناه من فوائد للشورى فاننا ندعو جميع الافراد و الاسر و الدول الكبرى و الصغرى إلى المبادرة إلى تحقيق مبدا الشورى بينهم لما فيها من فوائد ايجابية .
و صلى الله على خاتم الانبياء سيدنا محمد
المراجع
([1]) راجع : الدكتور توفيق الشاوى ، فقه الشورى والاستشارة ، ص 7 - 27، بتصرف ، وتقديم وتأخير ، ط دار الوفاء ، ط1، 1412هـ/1992م .
([2]) الفيروزآبادى ، القاموس المحيط ، ص 379 ، مادة (ش و ر) ، ط دار الفكر . القرطبى ، الجامع لأحكام القرآن ، م س ، 9/ص6080- 6081 ، دار الغد العربى ، 1990م .
([3]) ضياء الدين الريس ، النظريات السياسية الإسلامية ، ص232- 237 ، دار التراث ، ط 7 ، 1979 م .
([4]) فتحى عبد الكريم ، الدولة والسيادة ، ص345 ، مكتبة وهبة ، ط2 ، 1404هـ/ 1984م .
([5]) جمال أحمد المراكبى ، الخلافة الإسلامية ، ص 193 ، ط أنصار السنة المحمدية ، 1414هـ .
([6]) سورة آل عمران : الآية 159 .
([7]) د. أحمد شلبى : السياسة والاقتصاد فى التفكير الإسلامى ، ص57-58 ، ط النهضة المصرية ، ط 2 ، 1967م .
([8]) الطبرى : جامع البيان عن تأويل آى القرآن ، القاهرة ، دار المعارف ، ج7 ص343 وما بعدها .
([9])القرطبى ، الجامع لأحكام القرآن ، ط دار الغد العربى ، 2/1594 ، وما بعدها ، ط 1990م .
([10]) الزمخشرى : الكشاف ج1 / 226 ، ((المكتبة التجارية)) ، 1354هـ .
([11]) الرازى : ((مفاتيح الغيب)) : ج3 . ص120 .
([12]) فتحى عبد الكريم ، الدولة والسيادة ، م س ، ص 348 .
-
عضو جديد
-
عضو جديد
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى